نشيد الأناشيد عظة (2)
(العشق الإلهي)
بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين.
مرحبا بكم أيها الأحباء المشاهدين في برنامج عظات روحية، من سفر نشيد الأناشيد لسليمان الحكيم. وحلقة اليوم هي تكملة للحلقة السابقة للرد على اعتراض مثار حول هذا السفر مؤداه: هل صحيح أن نشيد الأناشيد رسالة من الملك سليمان موجهة إلى عشيقة له؟
والرد على هذا الاعتراض يستوجب مناقشة النقاط التالية:
1ـ النفس العاشقة
2ـ الخبرة الصادقة
3ـ العلاقة الفائقة
أولا: النفس العاشقة:
1) الواقع أن الادعاء بأن نشيد الأناشيد رسالة من الملك سليمان إلى عشيقة له، إدعاء غير صحيح. ولا يقول به إلا إنسان ساذج، لا يعرف سيكلوجية النفس العاشقة.
2) فالعشق تشوق واشتياق، والاشتياق رجاء، والرجاء رغباتٌ بعيدةُ المنال يسعى الوَلْهان جادا ليحققها،
3) أما الملوك فلا ينطبق عليهم ذلك، فليس شيء بعيدَ المنال بالنسبة لهم، إذ هم قادرون أن يحققوا كل ما يرغبون، وأن يبلغوا بالقوة إلى كلِّ ما يرجون، وشعارهم: "وما ملكت أيمانكم" [أي أياديكم].
4) فأياديهم طائلة. إذن فليس لديهم مشكلة، لتُدْخلَهم في دائرة العشق والتلهف والوَلَه.
5) والواقع أن الملوك لا يعشقون، ولكنهم عندما يشتهون يملكون.
6) ومن هنا جاء تعدد زوجاتهم وسراريهم وما ملكت أيمانُهم.
7) وهنا يفرضُ سؤالٌ نفسَه على الساحة وهو: كيف تعلل عشق الملك سليمان كما هو واضح
8) من سفر نشيد الأناشيد؟
9) وللإجابة نقول: عندما نرى ملكا عاشقا كسليمان، فمن المؤكد أن عشقة ليس موجها إلى إمرأة يستطيع أن ينالها بقوته وسلطانه،
10) إذن فلابد أن عشقه موجه إلى محبوبٍ بعيدِ المنال، إلى الله ذاتِه.
11) فأشواقُه البعيدةُ المنال التي يصبوا إليها، ويسعى متلهفا حتى تتحقق، هي اللقاء الحبي مع الله الذي تحبه نفسه العاشقة.
12) اسمعه يقول في هذا السفر الروحي: "أنا لحبيبي وإليَّ اشتياقه ... المحبة قوية كالموت، ... مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة، والسيول لا تغمرها، إن أعطى الإنسان كلَّ ثروة بيته بدل المحبة تحتقر احتقارا" (نشيد 7: 10، نشيد8: 6،7)
13) فهل هذا حب جسدي شهواني؟
14) إنه حب النفس العاشقة للمحبوب السماوي.
15) ثم ننتقل إلى النقطة الثانية في موضوعنا وهي:
ثانيا: الخبرة الصادقة:
إن شعور النفس العاشقة للذات الإلهية هي خبرة روحية فائقة تتمتع بمذاقتها كل نفس تقترب من مجال جاذبية الحب الإلهي، وقد ظهر هذا الوله والعشق الروحي في أشعار الصوفيين أيضا؟
- إذ نرى هذه النغمة العاشقة الولهانه تلون شعر العشق الإلهي الصوفي بكل وضوح،
- ففي شعر محمد الكيزاني أحد الصوفيين الكبار، من (كتاب الأدب الصوفي في مصر ص 20) يقول:
** ولقد أودعَ الغـرامُ بقلـبي زفراتٍ ** أضحى بها مصـدوعا
** وحرامٌ على التلهفِ ألاَّ يريـحَ أو ** يحرقَ الحشا والضـلوعا
- واسمع هذه الأبيات للشاعرة ريحانة الأبلية عن شوقها للقاء الله،
http://www.islamic-sufism.com/article.php?id=596
** أنت أُنْسي ومنيتي وسروري ** قد أبى القلبُ أن يَحِبَّ سـواكا
** يا حبيبَ القلبِ من لي سواكا ** فارحـمَ اليومَ مذنبـا قد أتاكا
** يا مناي وسيدي واعتمـادي ** طال شوقي ـ متى يكون لُقاكا
** ليس سؤلي من الجِنان نعيمٌ ** غيــرَ أنـي أريـدُهـا لأراكا
4ـ وهناك آخرون تكلموا عن هذا العشق الإلهي؟
فقد جاء في موقع معابر:
http://maaber.50megs.com/issue_december05/lookout2.htm
- للشاعر شيبان المولَّه (المُصاب):
** إن ذكرَ الحبيب هيَّجَ شوقي ** ثم حبُّ الحبيب أذهلَ عقلي
- ومن أشعار حماد الأقطع في هذا المنحى العشقي:
** أَنْحَلَ الحبُّ قلبَه والحنينُ ** ومَحَاهُ الهوى فلا يستبينُ
- وقال ابن عربي، المتصوف الأكبر:
** أدينُ بدين الحب أنَّى توجَّهَتْ ** ركائبُه، فالحب ديني وإيماني
- وتقول رابعة العدوية:
** عرفت الهوى مذ عرفت هواكا ** وأغلقت قلبي عمّن سواكا
** وقمت أناجيـك يا من تــرى ** خفايا القلوبِ ولسنا نراكا
- ولها أيضا في موقع (عشاق الله دوت كوم):
http://www.ushaaqallah.com/category/1084
** يا سروري ومنيتي وعمادي ** وأنيسي وعُـدَّتي ومـرادي
** أنت روحُ الفؤاد أنت رجائي ** أنت لي مؤنسٌ وشوقُك زادي
** حبـك الآنَ بُغيتي ونعيـمي ** وجلاءٌ لعـينِ قلبيَ الصـادي
** إن تكن راضيـاً عني فإنني ** يا مُنى القلبِ قد بدا إسعـادي
- هذا هو العشق المقدس للمحبوب بعيدِ المنال، وهذه هي الأشواق المشبوبة المتوقدة لرؤيته.
- ويقول في ذلك أيضا الدكتور عبد الرحمن بدوي (في كتاب شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية ص 76):
- يُحكى عن رابعة العدوية أنها كانت تنوح باستمرار، فسئلت: لماذا تنوحين وأنت لا تشكين ألما؟ فأجابت: وا حسرتاه! الْعِلَّةُ التي أشكوها ليس مما يستطيعُ الطبيبُ علاجَها. إنما دواؤها الوحيد، رؤية الله. وما يعينني على احتمال هذه العلة إلا رجائي أن أحقق غايتي هذه في العالم الآخر"
- أفبعد هذا كله يستطيع أيُّ أحدٍ أن يقول أن سفر نشيد الأناشيد رسالة من الملك سليمان إلى عشيقة له؟!
- حاشا، فسفر نشيد الأناشيد كما قلنا هو قصيدة شعر صوفي روحاني كتبها بالوحي سليمان الحكيم المتيم بالعشق الإلهي، يصف خلجاتِ نفسِه في علاقتها بحبيب الروح وخالقِها،
- وهو رغم جبروتِه وحكمتِه وغناه، لكنه يقف عاجزا وفقيرا أمام أشواقه المتعطشة إلى حب الله والتمتع برؤياه. نأتي إلى النقطة الثاثة:
ثالثا: العلاقة الفائقة:
قد يقول قائل: إن نشيد الأناشيد يتكلم عن علاقة بين عروس وعريس، فكيف يكون هذا موضوع سفر موحى به من الله؟
الإجابة:
- قلنا أن سفر النشيد يمثل العلاقة الحبية المقدسة بين الله والنفس البشرية المتيمة بعشقه،
- هذه العلاقة الحبية قد وُضِعَت في قالب مجازي بليغ، قالب العلاقة الشرعية التي تُوَحِّدُ وتؤلف بين العريس وعروسه.
- فشُبِّهت النفس البشرية بعروس وشبه الله بالعريس. وهذا ما قاله يوحنا المعمدان: "من له العروس فهو العريس" (يوحنا 3: 29)
- وبولس الرسول قال: "خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2كو11: 2).
- وبنفس الصورة البليغة كانت علاقة رابعة العدوية المتصوفة المسلمة بالله،
- إذ يقول الدكتور بدوي عنها في كتابه [شهيدة العشق الإلهي: ص 26] "لقد بدأت رابعة تستشعر الحب لله، وتواكبه مشاعر مختلفة، لعل من بينها، ومن أقواها الشعور بأنها نذرت نفسها لهذا المحب الأسمى" ويواصل حديثه قائلا: "وعما قليل ستُعْلِن خِطبتُها إليه، [ويكمل حديثه قائلا]: ولعل ذلك يفضي في النهاية إلى الزواج الروحي بينها وبين الله" [هذا ما قاله الدكتور بدوي المسلم]
- فهذه العلاقة الحبية هي موضوع الشعر الصوفي عموما، وموضوع سفر نشيد الأناشيد على وجه الخصوص.
- هناك تشبيهات، واستعارات، وكنايات، ورموز، لو أُخِذَتْ بالمعنى الحرفي فَـقَـدَت معناها الروحي السامي.
- وبعد كل ماسبق إيضاحه قد يقفز إلى ذهن أحدهم تساؤل وهو: أليس ما يقال عن الحب الإلهي أو العشق الإلهي إنما هو بدعة في الدين؟
- أجيب أن هذا ليس صحيحا، وأسوق إليه كلمات:
أـ رجل مسلم متمسك بدينه هو الأستاذ مأمون غريب في (كتاب رابعة العدوية في محراب الحب الإلهي ص 19) حيث يقول: "لم يكن الصوفية مبتدعين وهم يريدون من تعبدهم لله أن تشرق عليهم الأنوار الإلهية". [ويعود ليؤكد هذه الحقيقة] في (نفس الكتاب ص80) بقوله "الحب الإلهي إذن هو غاية الصالحين، وليس بدعة أو اختراع".
ب ـ واسمع الدكتور علي صافي حسين في كتابه (الأدب الصوفي في مصر 221) يقول: "وكان ذو النون المصري الشاعر الصوفي يتحدث في شعره عن العشق الإلهي أو المحبة الربانية" [ويكمل قائلا]: "لم يكن يختلف في شيء ذي بال عما كان عليه شعر الغزل بمعناه العام".
11ـ ومن أمثلة شعر العشق الإلهي أو الحب الرباني في المسيحية ما كتبه المتنيح البابا شنودة الثالث في (كتاب انطلاق الروح) قصيدة "همسة حب" أقتطف بعض أبياتها:
** قلبي الخفاق أضحى مضجـعك ** في حنايا الصدر أخفي موضـعك
** ليـس لي فكـر ولا رأي ولا ** شهـوة أخرى سوى أن أتبـعك
** قد نسيت الأهل والأصحاب بل ** قد نسيت النـفس أيضا في هواك
** قد نسـيت الكل في حبـك يا ** متـعة القـلب فلا تنـسى فتـاك
** في سـماء أنت حـقا إنـما ** كلُّ قلب عاش في الحب سـماك
** عرشـك الأقدس قلب قد خـلا ** من هوى الكل فلا يحوي سـواك
- وهناك العديد من الأناشيد الدينية أو ما يعرف بالترانيم والتراتيل الروحية، منها:
** وحـدك يا يسـوع ** وليس سـواك
** أحـبـك وحـدك ** ولا حدش وياك
** في العمق في هيام ** وفي العلا أحلام
** في الصحو والمنام ** أسعد أنا برؤياك
- وأيضا أنشودة:
** سباني بحبه سبيا عجيب ** فما عدت عنه أطيق انفصال
** عزيز عليَّ وأغلى حبيب ** يشاركني ظرفي في كل حال
3ـ هناك أمر هام يحتاج إلى توضيح وهو: هل لابد للمؤمن العادي الذي لم يصل إلى مستوى التصوف أن يمارس هذا العشق الإلهي في علاقته مع الله؟ أم أن تلك درجة بعيدة المنال؟
أوبتعبير آخر: هل العشق الإلهي قاصر على المتصوفين فقط؟ أم أنه أمر مستطاع لأي مؤمن عادي؟
الإجابة:
1) رغم أن العشق الإلهي هو درجة سامية في العلاقة مع الله، لكنه يمكن أن يبدأ في حياة المؤمن العادي عندما ينفتح قلبه لمحبة الله.
2) هذا الحب الذي قال عنه الكتاب المقدس (مت22: 37) "تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك". وهذا بالتأكيد في مقدور الإنسان.
3) والواقع إن الحب ينبغي أن يكون ركيزة العبادة لله، فالعبادة في مفهومها هي أسمى درجات الحب كما نقول في لغتنا الدارجة: "أن فلان يحب فلانا لدرجة العبادة"، أي أنه بالحب يلتصق به ولا يستطيع عنه فراقا.
4) إذن ما الذي يمنع الناس من التمتع بهذا العشق الإلهي في علاقتهم مع الله؟
5) الواقع أن المشكلة الأساسية في قصور الإنسان عن إدراك أبعاد العلاقة مع الله، تكمن في أن الدين أصبح عند العامة مجرد فروض وواجبات روتينية، دون علاقة حبية بين القلب وبين الله.
6) وهذا ما عبَّر عنه الكتاب المقدس في (مر7: 6) "هذا الشعب يكرمني بشفتيه، أما قلبه فمبتعد عني بعيدا وباطلا يعبدونني"
7) لأن العلاقة مع الله هي أساسا علاقة حب متبادل، كما يقول الكتاب المقدس (1يو4: 8): "الله محبة، فمن يحب يعرف الله ومن لا يحب لا يعرف الله"
8) والواقع أن الله سهَّل علينا الطريق إذ بدأ هو بالحب، وأصبح حبُّنا لله هو مجرد رد فعل طبيعي لمحبته لنا فالكتاب المقدس يقول (1يو4: 19): "نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولا"
9) فهل تريد يا عزيزي المشاهد أن تراجع علاقتك بالله؟ إن كانت هي مجرد عبادة الفرض؟ وعلى رأي المثل: يعمل الفرض وينقب الأرض"؟
10) أم تريد أن تكون علاقتك مع الله علاقة حبية من الآن.
11) قل له يارب علمني أن أحبك، واسكب حبك في قلبي، حتى أستطيع أن أحبك.
** وفي ختام جلستنا أحب أن أذكركم بالنقاط الأساسية التي تكلمت عنها اليوم:
* كان موضوعنا الرئيسي هو: هل صحيح أن نشيد الأناشيد رسالة من الملك سليمان موجهة إلى عشيقة له؟
* وأجبنا على هذا الاعتراض بالحديث عن النقاط الثلاثة:
1ـ النفس العاشقة
2ـ الخبرة الصادقة
3ـ العلاقة الفائقة
* وقلنا في النقطة الأولى: النفس العاشقة: أن العشق تشوق واشتياق، والاشتياق رجاء، والرجاء رغباتٌ بعيدةُ المنال يسعى الوَلْهان جادا ليحققها،
* والواقع أن الملوك لا يعشقون النساء، ولكنهم عندما يشتهون يملكون.
* إذن فلابد أن عشق سليمان كان موجها إلى محبوبٍ بعيدِ المنال، إلى الله ذاتِه. ولكنه وضع هذا العشق في صورة شعرية بلاغية فكان سفر نشيد الأناشيد.
** وفي النقطة الثانية: الخبرة الصادقة: قلت: إن شعور النفس العاشقة للذات الإلهية هي خبرة روحية فائقة تتمتع بمذاقتها كل نفس تقترب من مجال جاذبية الحب الإلهي، وقد ظهر هذا الوله والعشق الروحي في أشعار الصوفيين المسيحيين والمسلمين، وضربت لذلك عدة أمثلة.
** وفي النقطة الثالثة: العلاقة الفائقة: أجبت على الاعتراض القائل أن نشيد الأناشيد يتكلم عن علاقة بين عروس وعريس فهل يكون هذا وحيا؟ وقلت: أنها العلاقة الفائقة الحبية الشرعية،
* فهذه العلاقة الحبية هي موضوع الشعر الصوفي عموما، وموضوع سفر نشيد الأناشيد على وجه الخصوص، وضربت على ذلك أمثلة كثيرة من الأشعار الصوفية.
* وسنتعرف على المزيد من هذه العلاقة المقدسة بمشيئة الله، حيث نبدأ سلسلة جديدة عبارة عن شرح وتفسير وتأملات وعظات من سفر نشيد الأناشيد في الحلقات القادمة.
* والله الذي دعانا بمحبته يدخلنا إلى عمق شركته بمعونة نعمته، وعمل روحه القدوس فينا.
** عزيزي المشاهد إن أردت أن تتمتع بهذه النعمة، اطلب منه الآن أن يعلن لك حبه الذي تجلى على الصليب من أجلك، ومن أجل فدائك وخلاصك. ثق إنه يحبك. ولإلهنا كل المجد إلى الأبد آمين.